
توج النائب البرلماني بيرام الداه اعبيد، اليوم الجمعة، بجائزة الأمم المتحدة للأداء الجبار في مجال حقوق الإنسان.
وقال ولد اعبيد في كلمته عقب تتويجه بالجائزة، إن يقينه ورفاقه "الثابت بالانعتاق من قبضة ظروف ضاربة في القدم منحهم القوة بالمضي على الدوام، و إلى الأمام، على درب العدالة، وذلك رغم الاعتقالات والسجون، والتعذيب والإقصاء المادي و ما يعيشونه يوميا من الاحتقار".
وأضاف إنه ورفاقه "مُصِرِّون على التحرر من الخوف دون أن يهدموا، أو يجرحوا، أو يقتلوا" مردفا أن أسلحتهم كانت هي "الكلمة، وقوة الحجة، وما يتحلون به من يقين وصبر"، مشددا على أنه لا يمكن لأي أحد في موريتانيا أن ينسب إليهم "عملية قتل ولا محاولة للمساس بالحرمة الجسدية".
وقال ولد اعبيد إنه جاء ليرافع "عن قضية شعبه الذي ينافح من أجله" مؤكظا أنه تعرض للذم بسببه، كما "فجّر عينا لا تنضب من تحويل قناعات النساء والرجال إلى أفعال يومية ملموسة على أرض الواقع، وذلك من أجل مصلحة شعبه".
وفي مايلي نص خطاب ولد اعبيد:
"السيدات والسادة قادة وأعضاء مجلس إدارة أورورا،
أيها المدعوون الأكارم، من الحاصلين على جوائز نوبل، وبوليتزر، والأمم المتحدة،
جَمْعَنا الموقّر،
ها أنا أعانق الشرف واللوعة معًا، بكوني أجد نفسي بين هذا الحضور المبجّل، على بُعد آلاف الكيلومترات من شعوبنا الإفريقية المتكبدة وجعَ المعاناة لفرط تغييب إرادتها، وتجزئتها بالنعرات المختلقة، وخيانة الأمانة من طرف حكامها.
ومع هذا النأي الجغرافي والثقافي، لا شك أنكم تفهمون تفكير وتجربة محدِّثكم المتواضع الماثل أمامكم. إنكم تفهمون همومي، ومعنى كفاحي، وكل ما يربطني وإياكم بالمُثُل العالمية للصدق وللعدالة والمساواة واللاعنف.
ليست الفترات الزمنية العصيبة بالمهمة، فالسلم الحقيقي –ذلك السلم الذي يبزغ فجرُه من الفوضى وينجو من الغضب وجذوة الانتقام- لا يستند إلا على أسس الحوار والتعهد بإصلاح العطب كأداة مفضلة لمقاومة نكوص النزاعات وعودتها القهقرى. هذا ما تعلمناه، منذ الأزمنة الغابرة، من المسيرة المأساوية للبشرية نحو التقدم والتضامن واحترام قيمة كينونة الإنسان. فبمعزل عن الشعوب، وعن الأمم، وعن الثقافات، فإن تحقيق ذات الفرد الآدمي، وكرامته الجسدية، يظلان، في الآن نفسه، وسيلةَ وغاية نضالنا. بمجرد أن يتعصب الإنسان لفكرة عليا، أو تفكير طوباوي يراه الأفضل، ويقوده هذا التعصب إلى التضحية بحرية وحياة الآخرين، لصالح مُثُل يعتبرها مطلقة، لا شيء سينجرّ عن ذلك غير المذابح، والخراب المتعدد الأوجه، والضغينة المتوارثة، ومن ثم العجز العنيد عن إعادة بناء ما تهدّم، وعن تهدئة الوضع، وعن التصالح. إن الحق في الحياة مقدّس، أما كل ما تبقى فأقل شأنا. ألا نقتبس من التاريخ أن ضحايا الجرائم، حين يفلت مرتكبوها من العقاب، وحين تتنكر الدولة لحقوقهم، يمكنهم، بدورهم وبفعل الإحباط، أن يلبسوا ثوب العنف الدموي للجلاّد!..
اليوم، جئت لأرافع أمام ممثلي حكامة وضوح الرؤية الموثّق والسهر على الضمير الجمعي، عن قضية شعبي الذي أنافح من أجله، ولأجله تعرضت للذم، ولأجل مصالحه فجّرتُ عينا لا تنضب من تحويل قناعات النساء والرجال إلى أفعال يومية ملموسة على أرض الواقع.
إزاء الرق الوراثي في منطقة الساحل، وأمام إعادة إنتاجه بصيّغ عصرية، وأمام المجسمات العديدة لدونية الإنسان المحكوم عليه بها حسب المولد واللون، وأمام ما يتعرض له الإنسان الأسود، في مجتمعه الأصلي الأسود، من نير الرق السرمدي المتوارث، وأما ما يتعرض له الإنسان الأسود من نير الهيمنة الإسترقاقية والأحكام العنصرية المسبقة في مجتمع العرب-البربر، انتصبنا شامخين، أنا ورفاقي، مُصِرّين على التحرر من الخوف دون أن نهدم أو نجرح أو نقتل أبدا. لم تكن أسلحتنا غير الكلمات، وقوة الحجة، وما نتحلى به من يقين صبور. وخلال عقدين من الجهود القاسية، لا يمكن لأي أحد في موريتانيا أن ينسب إلينا عملية قتل ولا أية محاولة للمساس بالحرمة الجسدية للمناوئين لنا. وبالرغم من الاعتقالات، والسجون، والتعذيب، والإقصاء المادي، ورغم ما نعيشه يوميا من الاحتقار، فإن يقيننا الثابت بالانعتاق من قبضة ظروف ضاربة في القِدم، قصد انتشال المنبوذين والجلادين على حد سواء، يمنحنا القوة بالمضي، على الدوام، إلى الأمام، على درب العدالة.
ولا أخفيكم سراً، أيها الرفاق في أممية البذل والشهادة من أجل بسط الحقوق والسلم والتآخي بين البشر، أن اليأس الشديد ينتابني أحيانا حينما أقف حائراً أمام حث الخطى إلى الصدام المدمر وتهيئته في غفلة وغباء من طرف من يحكمون بلدي.
أعزائي الحضور، إن حكامنا، المتكئين على قوت المحكومين الجياع، الذين يمثلون السواد الأعظم في بلدي، يرفضون الإصغاء لكل ما فيه الخير لهم أولاً و لضحاياهم ومحكوميهم ثانياً.
إننا نطالب بالعمل المعوض اللائق، والمساواة في الفرص، ورفع التضييق في الحالة المدنية، وتوفير إمكانية التقييد على اللائحة الانتخابية، عسى نتهيأ للتغيير السلمي وفق حكم صناديق الاقتراع. كما نسعى إلى الخروج من مأزق الأمية بغية كسر شوكة التفوق العرقي الذي يعيد إنتاج الجهل ويفاقم القدرة على مراقبة الضمائر من خلال التلاعب بالعقيدة وترسيخ الخرافة. وأخيرا، فإننا نصبو إلى ممارسة ديمقراطية لحكم الدولة في سبيل إطلاق الإصلاح الشامل لمفهوم المواطنة.
وغدًا، سيشعر كل موريتاني أنه حائز وحارس لنصيب من مصير بلاده، وبالتالي يتوقف الخوف من الزي الرسمي (عسكريا كان أم مدنيا).
سيداتي، سادتي،
إن منع أو إعاقة التدفق العاصف للتطهيرات العرقية يوجد في صلب غايات جائزة أورورا للوعي الإنساني، وهو واجب يحكي عن نفسه. لقد كادت موريتانيا، في الفترة ما بين 1986 و1991، أن تغرق في أتون التطهير العرقي على حساب المجموعات غير المستعربة في جنوب البلاد. وحتى يومنا هذا، لم يتعرض للمقاضاة أي جلاد أو آمر بمئات حالات القتل، وعشرات آلاف حالات الترحيل، والعديد من مصادرة الماشية والأراضي. فثمة قانون، ساري المفعول منذ 1993، ما يزال يجعلهم في منأى عن جردة الحساب وحتى عن وضع لجنة للحقيقة والمصالحة. إنهم يستظلون بقبائلهم فيستفيدون من حصانة بالمولد يتوقف دونها القانون. من حينها، أضحى قتلُ الزنوج، للأسف، في عداد التفاهات على شكل كبوات تحدث في مفوضيات الشرطة أو خلال عمليات القمع بالرصاص الحي خلال مسيرات الاحتجاج المدنية.
اسمحوا لي، رجاءً، أن أتقدم، هنا، بتأبين لسبعة مراهقين خنقوا، ضمن العشرات، داخل زنزانة بُعيد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، شهر يونيو 2024. لقد كانوا يرفعون الشعارات ويطالبون بالاعتراف الرسمي بفوزي. تضحيات هؤلاء لن تكون بلا جدوى، فهي ستظل إلهاما لوعينا ونبراسا لطريقنا. إن تعافي المواطن في موريتانيا وتوجهه لفرض التغيير لم يعد من قبيل التكهنات والشكوك. إنه قادم، وسنسهر على السيطرة على مساراته في منأى عن المزايدات والحماس النضالي المفرط ونشوة الانتصار. ولأننا تعلمنا عن المحرقة، وعن الإبادة النازية للأرمن، وعن الخمير الحُمر، وعن الاستالينية، وعن الثورة الثقافية في الصين، وعن مذبحة التوتسي في روندا، وعن إفناء الدارفوريين، وعن مصير الروهينغا والأوغور، وعن القضاء، حاليا، على أوجه حياة الفلسطينيين، فإننا نحرّم على أنفسنا الإفراط في اليقين الذي يقود إلى الانسلاخ من القيّم
الإنسانية. وفي كل الأحوال، فإننا لم نزل نتذكر بيريمو ليفي ، وحنّه آرانت ، وليو استروس، وروبير آنتيلم، وفاسيلي اغروسمان، وألكسندر سوليجنيتسين، وبالطبع لم نزل نتذكر المأسوف عليه فارتان اغريغوريان، مهندس لقاءاتنا هذه في لوس أنجلس.
السيدات والسادة،
أطلب منكم، في الختام، أن تنظروا بجدية إلى احتمال وقوع تطهير عرقي جديد في منطقة الساحل بحيث يتقدم تهديدُه نحو خليج غينيا. فانطلاقا من هدفها المشروع الساعي إلى القضاء على الإرهاب، تَعْمَدُ بعض الأنظمة الاستثنائية، مدعومة بمرتزقة روسيا وبميليشيات الدفاع الذاتي المحلية، إلى التصفية الممنهجة لعرق الفلّان بتهمة الإيواء والتخابر لصالح المتمردين الإسلامويين. ولعل الصور الأخيرة تشهد على حجم هذا الطرح. وفي اتجاه معاكس، ومنذ خمس سنوات، تواصل كتائب التطرف الديني العنيف، عمليات التطهير بحق المسيحيين والوثنيين والشيعة. إن هذين الوضعين يدعواننا إلى اليقظة المشتركة.
كم كانت الفرص نادرة قبل أن يكون بمقدور الإنسانية، ليس فحسب توقع الأدهى، لكن أيضا أن
تصوره بالأقمار الصناعية وتؤكد على أصغر تفاصيله. وبالتالي، لا يمكننا، اليوم، أن ندّعي أننا لم نكن على علم بما يجري في وقته. وعليه، من فضلكم، تحركوا قبل فوات الأوان".